لا شك بأن تنظيم «داعش» بات يشكل خطراً في أكثر من اتجاه وعنوان، ومهما كابر البعض وحاولوا اختلاق الذرائع والاسباب التخفيفية لنشأة هذا التنظيم وتصرفاته وما يشكله من تهديد لشعوب وطوائف ودول في المنطقة وخارجها، فإن الوقائع تدحض المحاولات وتثبت بأنه تنظيم ابتدع لنشر الفتن الطائفية والإجهاز على الأقليات وتشويه الإسلام استجابة لما قاله رئيس المخابرات الاميركي بعد هزيمة إسرائيل في جنوب لبنان 2006 ويأسه من نجاح الغرب في إخضاع المقاومة ضد إسرائيل، فقال: «علينا أن نصنع لهم إسلاماً يناسبنا ليقتتلوا به وحوله» وكان «إسلام داعش» وأمها وأخواتها هو الإسلامي الأميركي الإرهابي المنشود. وبه أضحت «داعش» مصدر خطر شديد على المنطقة وساهمت الحرب النفسية والإعلام في تضخيمه حتى بات الذهن يستعيد ما صنعه الإعلام الغربي للجيش الصهيوني من صورة بوصفه «جيش لا يقهر» …. قام بذلك الأميركيون أنفسهم الذين يدعون اليوم الى قتال «داعش» ووضع استراتيجيات لقتالها وإنشاء تحالف دولي لحصر خطرها. فما حقيقة هذا الخطر وكيف يواجه صدقاً؟
إن مقتضى البحث العلمي عن حقيقة خطر «داعش» يقود الى البدء بتحديد قوتها التي رغم ما قيل ويقال عنها ورغم الضجة الدولية حول مخاطرها فإنها في الواقع لم تصل كما نعتقد الى امتلاك القدرات التي تمكنها من بلوغ الاهداف الاستراتيجية الكبرى التي حددتها لنفسها إذا تمت مواجهتها من قبل المستهدفين بخطرها بالطريقة الملائمة، لا بل نستطيع القول: إن مقارنة متطلبات اهداف «داعش» مع ما هو متوافر حقيقة لها من قدرات تكاد تقود الى القول بأنه من السخف والهراء قبول فكرة احتمال تمكنها من الوصول الى أهدافها المعلنة أو تنفيذ ما تهدد به.
وهنا وبالوقوف عند قدرات «داعش» المنظورة وغير المنظورة نجد أن هذا التنظيم الإرهابي يستند في قوته الى 65 الف مسلح ينتشرون حالياً على مساحة تصل تقريباً الى 35 ألف كلم 2 من أراضي كل من العراق وسورية ولبنان، ويتحركون في بيئة شعبية متقلبة منها ما يشكل بيئة حاضنة ومؤيدة لها ومنها ما كان كذلك ثم انقلب على «داعش» وبات عدوا لها او عارضها في الأصل ولم يقبل بوجودها يوما ومنها ما يعتبر زئبقيا يتردد بين نصرة «داعش» أو عدائها أو تجاهلها، أما الاخطر من الارواق التي تمسك بها «داعش» فهو سيف الإرهاب الوحشي الذي استعارته من الفكر التلمودي الصهيوني وادعت زورا نسبته للإسلام، ورقة تترجم بأسلوب «داعش» في التعاطي مع الأعداء والخصوم في الميدان عبر رفع شعار «جئناكم بالذبح لإحياء سنة الحبيب» ونشر ثقافة الذبح وقطع الرؤوس من أجل بث الرعب الذي يقود الى الانهيار المعنوي لدى الخصوم بما يجعلهم يفرون من الميدان أمام «داعش». وبالتالي بات الذبح الوحشي جزءا رئيسيا من استراتيجية داعش في الحرب. أما في القدرات المالية فقد كانت داعش تتكل في نشأتها الاولى بنسبة 95% من احتياجاتها على المال الخليجي، اما اليوم فقد باتت تمتلك مصادر مهمة للتمويل خاصة بعد أن وضعت يدها على حقول نفط في العراق وسورية، وفتحت تركيا الباب لها لتهريبه وبيعه في السوق السوداء بواسطة تجار اتراك وأوروبيين.
اما المستتر غير المعلن من قدرات «داعش» فإنه يشكل من حيث أهميته اضعاف ما يشكله المنظور منها ويتمثل بالدعم الذي تتلقاه من دول إقليمية وغير اقليمية يبدو أنها ما زالت على مواقفها الحاضنة لـ«داعش» رغم أنها تدعي إعلامياً عكس ذلك. وهنا نذكر بأن «داعش» هي منتج أميركي، تم استخراجه من التنظيم الأم «القاعدة» ليخصص للعمل تحديدا في العراق مباشرة بعد احتلال اميركا له، ثم نقل نشاطاته الى سورية بعد ما تبين لأميركا ان الفرع من القاعدة الذي أنشأته لها تحت اسم «جبهة النصرة» عجز عن القيام بما كلف به لإسقاط النظام ووضع اليد الاميركية على البلاد. ومع هذا الاحتضان الأميركي لـ «داعش» كان الدعم الكبير الذي يقدم لها من دول إقليمية تدور في الفلك الاميركي وتنفذ السياسة الاميركية، فبرز دور تركيا والدول العربية الخليجية وفي طليعتها السعودية وقطر، ولم تكن الدول الاوروبية بعيدة عن تقديم الدعم لهذا التنظيم الإرهابي وبصور مختلفة.
لقد عملت «داعش» في سورية لمدة تجاوز السنتين وكانت في البدء احدى الفصائل المسلحة غير الاساسية فيها، حيث كانت فصائل غيرها تتقدم عليها في الاهمية والخطورة، لكن الوضع تغير مع تغيير في الخطط الاميركية المعدة لسورية، فتطورت «داعش» بشكل مفاجئ يكاد يكون غير مفهوم أو غير واقعي حيث تضخمت من 3000 مسلح لدى دخولها الى سورية، الى 8000 مسلح بعد ستة اشهر من بدء عملها هناك، ثم الى 15000 بعد سنة من ذلك وإلى 35000 عشية تحولها مجددا الى العراق لتنفيذ «مسرحية الموصل» وبلغت الـ 65 ألفاً بعد شهرين على هذه المسرحية، نمو ترافق مع إعلان «دولة الخلافة» وتحديد خريطتها التي تجعل من ست دول عربية أرضاً لها.
هذه هي قدرات داعش التي لا تتعدى في العمق الـ 65 ألف مسلح، والتي لا تملك منفذاً بحرياً والتي تنتشر على مساحة فيها أكثر من مليوني رجل أمن وجيش وقوى غير رسمية تناهض وجودها وترفض قيام دولتها المزعومة، ومع موازين القوى هذه نطرح السؤال: هل إن هالة الرعب التي تريد إنتاجها دوائر الاستخبارات الغربية والإعلام الدائر في فلكها واحاطة «داعش» بها أمر مبرر أم إن وراء الأكمة ما وراءها.
نعود فنقول: إن «داعش» تنظيم إرهابي يمثل خطراً على منطقة الشرق الاوسط برمتها وهو بات اليوم بيد أميركا بمثابة السكين الذي يقطع أوصال المنطقة ويهدم ما بين دولها من حدود ويشيع الفوضى والرعب استجابة لنظرية «الفوضى الخلاقة» التي أطلقتها أميركا في العقد الماضي، وأن «داعش» مع إسرائيل تشكل أمل اميركا شبه الوحيد لإعادة وضع اليد على كامل المنطقة ولهذا تساهم اميركا في مواقفها المعلنة في تزخيم الحرب النفسية ونشر الرعب بين صفوف شعوب المنطقة ودولها سعياً منها لامتلاك قرار هذه الدول والشعوب وامتلاك القيادة في التعامل مع «داعش» حتى تحافظ عليها.
لكن أميركا وبمواقف مقصودة أو غير محسوبة تفضح نفسها بنفسها وتؤكد بأنها لن تكون في حرب ضد «داعش» للقضاء عليها بل إن مواجهتها لداعش تدخل تحت عنوان «الضبط وتركيز الجهد» وحصره في الميدان الذي تستهدفه اميركا بعدوانها ولأجل ذلك قال أوباما: «إن ليس لأميركا استراتيجية الآن لمحاربة «داعش» وإن حربها بحاجة لاستراتيجية طويلة المدى يجب البحث عنها مع الحلفاء» في موقف يكاد يقول فيه اتركوا أمر «داعش» لنا ونحن نتدبره وفقاً لمصالحنا، كما يفصح كيري بأن جل ما تريده أميركا الآن «منع تمدد داعش الى دول أخرى» اي قبول اميركي بإرهاب «داعش» حيث هي، ورفض دخولها الى مناطق قد تهدد المصالح الاميركية كما هو الحال في أربيل مثلاً.
إن الغرب وعلى رأسه اميركا منخرط في الحرب النفسية لنشر الرعب من «داعش» ومن الخطأ بمكان ان نصدق الغرب في ادعائه انه يريد محاربتها، وهاكم الرئيس الفرنسي هولاند في هذا السياق يحاول أن يسبغ على «داعش» ما ليس في حقيقتها ويدعي بأنها «ليست تنظيماً عادياً بل إنه كيان يملك كافة مقومات الدولة ولديه الاموال والثروات التي تمكنه من الاكتفاء الذاتي كما ولديه القاعدة الشعبية والبيئة الحاضنة التي تمكنه من النمو وإيجاد المقاتلين باستمرار». ويؤازره رئيس الوزراء البريطاني في حملة التخويف والترويع عندما «يقول بأن داعش ستتمدد قريباً الى لبنان والأردن وأن لديها القدرات لذلك».
إننا على قناعة مطلقة بأن الغرب رأى في «داعش» كنزاً ثميناً ابتدعه ولمس جدواه، حتى بات يتقدم اليوم في الأهمية على «إسرائيل» خدمة للأهداف الغربية ومن الخطأ الظن بأن الغرب يريد أن يجتث «داعش»، وأن جل ما سيقوم الغرب به هو اللجوء الى حقنات تخديرية من أجل تمكين الإرهاب من الفتك بجسم المقاومة. ولو كان الغرب صادقا في حرب «داعش» لكان بإمكانه اعتماد استراتيجية ناجعة لهذه الحرب وهي لا تحتاج لفكر كبار الاستراتيجيين وعظمائهم فالأمر واضح حتى لدى العاديين، استراتيجية شاملة السياسة والإعلام والمال وأخيراً الميدان ونراها تقوم على:
1. قرار دولي حازم باعتبار داعش وأمها وأخواتها تنظيمات إرهابية يجب اجتثاثها، اما القول بحصر الخطر أو منع تمدده فهو خبث يخفي النيات السيئة.
2. قرار بالتوقف عن خدمة«داعش» إعلامياً في الحرب النفسية التي تقودها من أجل الترويع والرعب، ومنع تداول اي شيء يتصل بإرهابها عبر أي وسيلة إعلامية بما في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي.
3.إقامة تحالف إقليمي دولي جدي يشارك فيه جميع المعنيين بالمواجهة وإنشاء منظومة تنسيق ميداني شاملة لهم لتبادل المعلومات وتوجيه العمليات العسكرية، اما القول باستثناء هذا أو ذاك من المتضررين فيعني عدم الجدية في الحرب.
4.العمل في الميدان انطلاقا من مبدأ احترام سيادة الدول حتى لا تقع الفوضى وتضيع المسؤولية بل وتكون كل دولة مسؤولة عن إقليمها وتستعين بقوى التحالف الدولي من أجل الدعم والمؤازرة أي ان يقدم لها التحالف ما تتطلبه حربها من دعم لوجستي واستخباري.
5.القرار الصارم بتجريم أي نوع من أنواع المساعدة أو الدعم أو الترويج لداعش واعتبار الدول التي تستمر في دعم داعش وأخواتها بأي شكل من الأشكال الإعلامية والمالية والسياسية والتسليحية دولاً راعية للإرهاب تستحق عقوبات دولية تفرض بمقتضى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
فإذا كان الغرب صادقاً في محاربة داعش فإن استراتيجية مواجهتها واضحة ولا نعتقد أن عاقلاً يناقش بها، ولكننا لا نعتقد مطلقاً بجدية الغرب وعلى رأسه أميركا في هذه المواجهة وإننا ننظر الى المواقف التي صدرت عنهم فنراها من أجل التخدير لحمل المستهدف بإرهاب داعش على الاسترخاء وتمكين صاحب المشروع الصهيو أميركي من تحقيق أهدافه التي عجز عنها خلال السنوات الأربع الماضية.
(المصدر: صحيفة الثورة بتاريخ 1/9/2014)