الأسبوع الماضي كان، وبامتياز، أسبوع اتضاح الصورة بالمطلق، فمن جهة، غسل الجميع، بمن فيهم الراعي والممول “والداية”، أيديهم من “داعش”، حتى خلنا للحظة أن “الخليفة أبا بكر البغدادي” ذاته سيخرج من أحد مساجد الموصل ليغسل يديه منه أيضاً، ومن جهة أخرى، أعلن الجميع، وبكل صفاقة، أنهم يريدون استنزاف سورية، ومن في صفها، حتى آخر رمق، بل حتى آخر حد جغرافي ممكن.
وبكل بساطة ووضوح، ما يحصل في المنطقة اليوم، من بغداد إلى تطوان، وما بينهما، ليس أحجية مبهمة كما يتصوّر البعض، وليس نتاج تطورات محلية محضة فقط، كما يحاول البعض الآخر ترويجه، فما يحصل اليوم هو “شوط” آخر من لعبة الأمم، التي تدور بعض أحداثها على أرضنا، حيث الصراع على أشده بين رؤى مختلفة لدول عظمى متعددة لا تريد فقط تحديد حجم حصتها من كعكة الثروات والخيرات العالمية، بل تحديد حصص غيرها أيضاً.
بهذا المعنى يبدو أنه من الضروري التأكيد على نقطتين: الأولى: إن ما يحدث إذاً لم يعد مجرد مؤامرة، لأنه يحدث في العلن وعلى رؤوس الأشهاد، والثانية: إن الصغار دائماً ما يدفعون من دمائهم ثمن حقن دماء الكبار، وهذا ما يفسر اكتفاء واشنطن بالقصف الجوي على “داعش”، كما أن الصغار يدفعون من ثرواتهم ثمن تقدّم الكبار، وهذا ما يفسر بدوره معنى إشراك دول لا تكاد تُرى على خارطة العالم في “ائتلاف أوباما”، لكنها موجودة في قائمة “فوربس” للدول الأكثر ثراء في العالم.
بيد أنه من المهم، في هذا المجال، التأكيد على نقطة أخرى هامة جداً، وهي أن ما يكتب في أروقة البيت الأبيض، وتموّل تنفيذه بقية البيوت السوداء، ليس قدراً لا يمكن رده، كما أنه ليس أمراً سهلاً يمكن مواجهته بالخطب والأدعية فقط، ولأنه مخطط وضعه رجال ورسمته قوى مختلفة، فيمكن، بالتالي، لرجال آخرين وقوى أخرى أن تصمد أمامه وتمنعه من الوصول إلى نهاياته المرسومة، وفي هذا المجال يمكن لمن يقرأ، استراتيجياً، أن يرى كيف تشكل التحركات الميدانية للجيش العربي السوري رداً مباشراً على ما يحاك في الغرف المظلمة، وإرباكاً سريعاً لمخططات “المناطق العازلة”، التي يعيد البعض التعويل عليها استكمالاً لمشروعه التخريبي الإرهابي، كما يمكن أيضاً، وفي ظل القراءة ذاتها، فهم ما يحصل في أمكنة أخرى قد تبدو بعيدة جغرافياً، اليمن على سبيل المثال، لأن الرؤية الاستراتيجية لا تعترف بالمسافات الجغرافية بعدت أم قصرت.
بهذا المعنى فإن مخططات التقسيم وخرائطه، التي تبرز اليوم على الساحة، ليست جديدة بالمطلق، فقد شهدنا ذاتها في مراحل سابقة، بيد أن حالة “السيولة” السياسية والدموية غير المسبوقة في المنطقة، هي ما يدفع بهذه المخططات إلى الواجهة من جديد، في محاولة من قوى الغرب، وعلى رأسها واشنطن، إعادة “تسييل” الجغرافيا العربية من جديد، ليس بهدف استثمارها في مخططات الإركاع والاستتباع المحلية فقط، بل لاستثمارها في مخطط إشغال القوى العالمية الجديدة الصاعدة أيضاً، وبهذا الإطار نفهم مثلاً قصة استقدام تركيا، ومن ورائها، مئات العائلات الصينية من “الإيغور” إلى الشمال السوري، والترفيع الفوري لبعض رجالها إلى رتبة ضباط في جيش “داعش”، باعتباره أمراً لا يتعلق بالأحداث السورية فقط، بل بالحرب القادمة على الصين أيضاً، والتي يبدو أنها تُطهى اليوم على النار السورية، بعدما طهيت الحرب على روسيا، بالشيشانيين والقوقازيين وبقية الاثنيات، التي تتسلم مراتب متقدّمة في الجيش “الداعشي”، الذي سيفتح روسيا مستقبلاً، حسبما يطمحون.
وبالمحصلة هذه مرحلة أخرى من لعبة الأمم، ولكنها مرحلة حاسمة وطويلة أيضاً يفرد فيها الجميع أوراقهم على الطاولة، ومعها تنفرد أجسادنا على الأرض، وتسيل دماؤنا حبراً، ليكتب بها مستقبل العالم للقرن الحالي، فهل نبادر، ولو لمرة واحدة، للمساهمة بالكتابة، ما دام الحبر من دمائنا؟
(المصدر: صحيفة البعث السورية بتاريخ 23/9/2014)