في استباق لإحداثيات الخرائط المستعجلة، لم تكتفِ التسريبات بالحديث عن وعود فرنسية تخلط الأوراق فحسب، بل تكشف ما خفي منها، وكان أعظم، ولو جاء على لسان وزير الخارجية الفرنسي الأسبق برنارد كوشنير، العائد بعد انقراضه من الساحة السياسية الفرنسية لاستدراك ما عجز عنه فابيوس في مطالبه بضربات ملتبسة، بعد أن خانته لغة التعبير مثلما خذلته تعابير الدبلوماسية.
ولا تكتفي فرنسا وبعض من يجاريها في أوروبا بفرض فتيل التفجير القادم في المنطقة، بل تنتقيه من رحم إدمانها على سياسة الوعود، بعد أن زرعت أميركا الفوضى، وهي تتثاءب في إدارة الدمار والخراب فتترك لهم الحبل على الجرار للعبث بمكونات المنطقة، والأخطر أنها تنتقي اللحظة الأكثر تأهباً للانفجار، وهي تستولد أطماعها الاستعمارية بجراحة فاشلة وبأدوات أكثر فشلاً.
المقامرة الأوروبية بالأوراق المتفجرة لم تعد حكراً على ما استخدمته في الماضي، وما استبقته من بؤر خلاف وتفجر متنقلة في المنطقة العربية، بل تغوص في البعد الإثني والطائفي والعرقي والديني لتصنع منه فتيل الانفجار القادم بعد أن ألقت برماد ما تفجر في مهب أطماعها البائدة وتذروه في الوقت بدل من الضائع..
المفارقة أن أوروبا لا تشعر بالحرج من وعودها المسربة للأكراد وغيرهم، فيما لا حق لها فيه ومن حساب الآخرين، وهي التي اعتاشت عليها لتحقيق أطماعها الاستعمارية في المنطقة، فلا تخرج من وعد وتبعاته وتداعياته إلا لتدخل في صفقة وعود جديدة تقدم خلالها ما هو أسوأ من سابقه، ولا تنقض عهداً أو مبدأً إلا وتستتبعه بطلائع كارثة قادمة!!
والسؤال: لماذا فرنسا اليوم – بعد أن كانت بريطانيا بالأمس – التي تحترف سياسة التفخيخ، ولماذا سياسة الوعود نافذة تطل منها على المسرح العالمي، وهل بمقدورها أن تتحمل تبعات ما تنتجه تلك السياسة؟ والأهم إلى متى ستبقى تصطاد في المنطقة ومصيرها؟.
في منطق الأحداث التاريخية تبدو أوروبا الممثلة بصبية السياسة الفرنسية في مقصورة أطماعها خارج أي معادلة سياسية يمكن طرحها للنقاش، وهي تردد من حقبة إلى أخرى تراجيديا شعاراتها البائدة تحت مسميات الطائفة والعرق واللون والدين وصولاً إلى الهوية التي عادة ما تقف في المرصد الأخير قبل أن تسدل الستارة على حقبة دورها الاستعماري بصبغته الجديدة، وبيادقه المتفجرة!!.
المسلّم به قبل غيره أن أوروبا المنقادة لأهواء ومطامع ساسة جاءت بهم الصدفة، بعد أن غابت قامات السياسيين الحقيقيين، لا تريد أن تتعلم من أخطائها ولا من تراكمات ما أنتجته سياسة الوعود لديها، رغم ما تواجهه من انحسار على المستوى الدولي، ومن تراجع على المسرح العالمي نتيجة ما اقترفته بحق شعوب العالم المختلفة، والمنطقة تحديداً بعد أن غسلت يديها ورجليها مما آلت إليه الظروف والمعطيات.
والواضح أن الخرائط التي أنتجتها سايكس بيكو وصلت إلى نهايتها، وباتت صلاحية استخدامها في الطور الأخير، ولم تعد قادرة على خدمة الأطماع الغربية والأوروبية تحديداً، ما دفع بفرنسا وبريطانيا كقاطرة للأطماع الأوروبية إلى العودة من نافذة سياسة الوعود تحت غطاء الفوضى التي أنتجتها السياسة الأميركية، اعتماداً على الإرهاب ووكلائه الأصليين والاحتياطيين على مسار التغيير في شروط ومحسنات الموقف مما يجري في السراديب والأقبية الموازية لها.
الفارق بين وعود أوروبا القديمة من زمن بلفور إلى مكماهون مروراً بسايكس بيكو، وما تمخض عنها ان الخرائط الجديدة التي تخزنها أدراج الاستخبارات الغربية، والأميركية على وجه التحديد، تواجه معضلة الاستحالة في التوصيف والمنهج، كما هو في التطبيق، حيث المقاربة الغربية هذه المرة لا تكتفي باعتماد الفوضى مساراً لحالة التهشيم في مكونات المنطقة، بل تعتمد أيضاً عامل التفجير العرقي والإثني وتزرع عشرات المتفجرات المتنقلة في عمق الوجود التاريخي لتلك المكونات، ويقودها في ذلك ساسة يفتقدون حس المسؤولية والإدراك.
فرنسا، ومن يحاكي تهورها وعدائيتها من الأوروبيين، لا تكتفي باللعب بالنار بقدر ما تضع نفسها في دائرة النار ذاتها، لتكون وقوداً لها لا ينضب، خصوصاً مع التسريبات المتنقلة عن تحضير إحداثيات متفجرة لا تقوى على رسم خرائط جديدة، بقدر ما تعمل على تفجير ما هو موجود أو يمكن أن يوجد في العقود القادمة.
(المصدر: وكالة سانا للأنباء بتاريخ 3/12/2014)