لقد كان شهداء السادس من أيار عنواناً مبهراً في تاريخ الأمة العربية، لأن هؤلاء الرجال الصناديد قد ألهموا مناضلي الوطن، على امتداد الزمن، قيم البطولة، وقدسية التضحية.. إن إرهاب المستعمر العثماني الذي سفح دم شهداء أيار عبر انكشاريته المتوحشة، ومحاولاته إقصاء الأمة العربية وإلغاءها دوراً، وحضارة، هو نفسه الذي يشكّل أحفاده اليوم جسر العبور لشياطين الإرهاب التكفيري الوهابي المحتشد من أكثر من ثمانين دولة للولوغ بدم الشعب العربي السوري، والإجهاز على استقلاله واستقراره، وموقعه المتقدم في جبهة المقاومة.
ويأتي عيد شهداء أيار الذي مجّده شعبنا هذه الأيام، ومدى الأزمان، ونحن نودّع على مدى الدقائق والثواني القتالية شهداءنا الأبرار الذين يتسابقون للصعود إلى فوق- الفوق- حيث شرفات الخلود تنضد أجفان الورود والغار التي تليق باستقبال العظماء والقديسين والأنبياء، والشهداء الذين أجزلوا العطاء لشعبهم في الميدان، فاحتكروا محبة وإكرام ربهم في ملكوت الرضوان.
لقد كانت القضية الأسمى والهدف الأعظم لشهداء أيار يتمحور حول مجابهة الاستعمار العثماني الذي كان يمثّل ظلام القرون وتخلفها وحقدها.
ولأن تحقيق استقلال الوطن، وسيادة الأمة كان يسكن قلوب أبطال شهداء أيار وفكرهم، فقد جاء جزاؤهم أعواد المشانق في موكب غاية من المهابة والجلال في كل من دمشق وبيروت، وفي تواقيت واحدة للكرامة والفداء، ووقفة عز وكبرياء تتغنى بها الأجيال العربية التي واصلت المسيرة الجهادية تحقيقاً للجلاءين الأسودين: العثماني، والأوروبي عن معظم أقطار الوطن الأكبر، استلهاماًَ واقتداء بفروسية أبطال أيار الذين نالوا شرف الحسنيين: السيف والقلم، حيث كان معظم هؤلاء الرجال الأشاوس شعراء وصحفيين وأدباء وخطباء وقادة فكر ورأي، جمعوا بعبقرية وشجاعة بين جسارة السيف وجدارة القلم في حسم المواقف، وتحقيق النصر المدوي.
وتتواصل مسيرة قوافل شهداء الأمة منذ فجر التاريخ القومي مع خالد وطارق وصلاح الدين، مروراً بالعظمة والأطرش والعلي وهنانو والخطابي والمختار وجول جمال وعبد الناصر وحافظ الأسد، وصولاً إلى شهداء تشرين، وأبطال وطن الشهادة والشهداء الذين يقارعون هذه الأيام أعتى طغيان وإرهاب عرفته البشرية طوال تاريخها.
إذا كان من حق جيلنا أن يشمخ اعتزازاً بوقفة شهداء أيار على بعد المسافة الزمنية (وهم أضمومة من الرماح متواضعة في العدد، عالية في الدور والرمزية)، فماذا عساها تقول الأجيال القادمة عن شهداء الوطن الذين صعدوا خلال الحرب الكونية الإرهابية التكفيرية الراهنة؟! وكم سيكون فخر هذه الأجيال عظيماً وهائلاً بهؤلاء الرجال الذين غمسوا تراب الوطن بنجيعهم المقدس، والذين ستصبح بطولاتهم الأسطورية نقل المجالس العامرة بقصص الكرامة، ومواقف الفداء؟!.
قدر سورية العربية أن تكون على الدوام، قيادة وحزباً وشعباً وجيشاً، البوصلة المشعة، والقلعة الحصينة، والأنموذج في صلابة الصدام، ومسطرة القياس للتضحيات الوطنية والقومية غابراً وحاضراً ومستقبلاً، فشهداء أيار كانوا السلم الأشمخ والأرسخ لصعود شهداء الثورة السورية الكبرى التي أنجزت الجلاء الأغر، وشقت الطريق أمام الأقطار العربية الأخرى نحو الاستقلال والسيادة، وقد تصدرت البوصلة التي أرساها شهداء تشرين جبهة التاريخ القومي باعتبارها أنبل وقائع الحرب التي خاضها العرب في القرن العشرين، لأنها خلخلت أسس الكيان الصهيوني الإرهابي، وشكّلت المدرسة الفدائية البطولية التي نهلت من نبعها فصائل المقاومة الباسلة في فلسطين ولبنان والعراق، وكل ساحة عربية وأممية تنتفض من أجل الحرية والكرامة واستقلال القرار، وشهداء جيشنا العقائدي الذين يواجهون الإرهاب الوهابي التكفيري الداعشي، المسلح أمريكياً وصهيونياً، والممول عربياً رجعياً، لابد أن يلهموا أجيال الأمة لمواصلة معركة المصير التي لابد أن تحرر العروبة والعالم أجمع من خطر الإرهاب الذي يستهدف حضارة العصر، وقيم الحداثة، وأن هذه الحرب الضروس على سورية لن يكون حصادها سوى النصر المدوي لشعبنا، والخزي والعار للرجعية النفطية، والاندحار التاريخي للإرهاب على تعدد مشاربه ومذاهبه ومشتقاته.
إننا واثقون بأن سورية العربية التي تحارب الإرهاب اليوم وحدها بدم جيشها الأسطوري، وشعبها الصامد، وقيادتها العملاقة، لن تنتصر لنفسها فحسب، بل ستنتصر لأمتها، ولفلسطينها، وعروبتها مهما طال مشوار التضحيات، وارتفع منسوب نهر الشهادة في الميدان.
(المصدر: صحيفة البعث بتاريخ 6/5/2015)