السيدات والسادة.. أيها الحضور الكرام.. منح وسام لقامة وطنية هو مناسبة وطنية لا شخصية والحديث خلالها وعنها يأتي في نفس الإطار والسياق الوطنيين.. لكن الوطنية كشعور وانتماء وفكر تبنى على مشاعر ومبادئ ومفاهيم المجتمع الذي يتشكل من أشخاصه فرادى، ولأننا لا يمكن أن نتناول مفهوم الوطنية بشكل منفصل عن الأفراد فلا يمكن أن نفصل بين الجانب الوطني والجانب الشخصي للقامة الوطنية، حيث يندمج فيها وفي نظرة الناس إليها الخاص بالعام بنفس هذا المنطق.
عندما أتحدث اليوم عن السيدة الدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية فأنا أنطلق من مزيج من رؤية خاصة بعيدة زمنياً قبل أن أكون عضواً في حقل الشأن العام ومن رؤية عامة قريبة نسبياً بعد أن تسلمت سدة المسؤولية وعملت معها بشكل وثيق لعقدين ونيف، منهما ستة عشر عاماً في منصبها الحالي.. ولا أنطلق من السبعينيات عند تسلمها لمهامها كوزيرة حينها وإنما من الثمانينات في سنوات الدراسة الجامعية، وهي مرحلة تكون الفكر والوعي الوطني والانتماء القومي لدى الشباب.. تلك المرحلة التي كانت تشغلنا فيها العناوين الكبرى كالصمود في مواجهة الحصار.. حصار الثمانينات وانطلاق المقاومة في وجه الغزو الصهيوني للبنان والتصدي لبوادر الانهيارات العربية السياسية أمام “إسرائيل” وأمام الغرب بعد كامب ديفيد واتفاقية السلام في لبنان وسقوطها لاحقاً وانتفاضات الجولان ضد المحتل، وغيرها من عناوين شغلت تفكيرنا وأسست لحواراتنا وكونت فكر جيلنا.
وإذا كان اهتمامنا بالوضع الداخلي هو من البدائه فإنه كان محصوراً بالعناوين وتفاصيلها دون أسماء المعنيين بها والقائمين عليها.. فلم يكن مثيراً للفضول بالنسبة لنا معرفة اسم مسؤول ما أو دوره أو مهامه بالرغم من معرفتنا بأدوار المؤسسات، وعلاقتها بالقضايا العامة ذات الاهتمام الشعبي، لكننا كنا نعرف أن هناك وزيرة للثقافة كسبت احترام المجتمع السوري بعكس ما هو سائد في ذلك الوقت، وفي هذا الوقت وربما في كل وقت من حالة الشك والارتياب تجاه أي مسؤول حتى يثبت العكس.. لا الثقة به حتى يثبت العكس.. هذا يعني أن كسب الاحترام لا يأتي مجاناً ولا يأتي بمجرد تلافي الأخطاء على ضرورته.. أو بالصفات الشخصية الحميدة وحدها على أهميتها.. وإنما نتيجة جهود كبيرة وإنجازات ملموسة ومبادرات مستمرة.. كسب الاحترام يأتي كنتيجة تراكمية لأعمال متصلة لا يجزئها انقطاعها، ومسار متصاعد مستمر لا يتخلله هبوط.
هذا المسار الذي استمر منذ منتصف السبعينيات حتى انتهاء مهام السيدة نائب رئيس الجمهورية في شهر آذار من العام 2000 لم يبدل اتجاهه، ولم يتراجع زخمه، ولم يخب وهجه.. فخلال السنوات التي فصلت بين مهمتين وطنيتين كوزيرة للثقافة وكنائب لرئيس الجمهورية.. كنا نلتقي بشكل مستمر ومتواتر.. نتحاور ونتشاور، ونناقش العديد من المواضيع والقضايا في مختلف المجالات والانقطاعات دونما استثناء.. ست سنوات خارج المناصب لم تثنها عن العمل ولم تضائل من غزارة أفكارها، أو تلجم اندفاعها للإنجاز وتكريس وقتها وفكرها وجهدها للمصلحة العامة الوطنية.. وفي هذه المقارنة العابرة وغير المباشرة بين مراحل مختلفة يكمن الفرق بين من يأخذ من المنصب.. وبين من يضيف إليه.. بين من يغيره المنصب ومن يفرض مثله وقيمه عليه.. بين من يكبر بالمنصب ومن يكبر المنصب به.
وهنا يطرح السؤال الذي قد يبدو خارج السياق أو في غير مكانه، هل استحقت نائب الرئيس الوسام لمسيرتها المهنية والوطنية ولمسارها الثقافي والسياسي… قد يندهش البعض من هذا السؤال الذي يبدو بديهياً ويقول: إن لم تكن كل تلك الأسباب والدوافع والمبررات، فماذا يكون إذن.. عادة ما يمنح الوسام على خلفية إنجازات قام بها الشخص تجاه وطنه ومجتمعه.. لكن الإنجازات هي بحد ذاتها أوسمة يحملها صاحبها.. والوسام لا يمنح لوسام.. والدكتورة نجاح العطار تحمل مسبقاً الكثير من الأوسمة التي تجسد إنجازات كثيرة خلال مسيرتها الوطنية.. والأوسمة التي يصنعها الشخص بنفسه أثمن وأعلى شأناً من أي أوسمة تمنح له.. فإذن بعد كل ذلك لماذا يمنح الوسام أساساً… الوسام لا يمنح لصاحب الإنجاز زيادة في مكانته، أو مجرد تقدير لما قام به.. وإنما لأهداف أبعد وأعمق.. فأهمية الوسام تأتي من أهمية من يحمله أولاً.. وبالرسائل التي يحملها ثانياً.. وكلاهما مرتبط بالآخر… وهذا الوسام بمناسبته وبحامله.. يحمل رسائل عديدة عميقة بمعانيها، واسعة بشموليتها.. يحمل رسالة الانتماء الوطني العميق والثابت والمتجسد بالتفاني اللامحدود في العمل من أجل الوطن والقناعات المتجذرة بالمبادئ الحافظة له والجامعة لمكوناته، والتمسك الصلب بمصالحه والشجاعة في مواجهة الملمات والنوائب حين تصيبه.. يحمل رسالة الانتماء القومي الذي يبدأ من اللغة العربية الأصيلة وصولاً إلى الهوية العربية الجامعة محصناً بالفكر الغني والعميق، ومثبتاً بالمواقف السياسية المبدئية..
يحمل رسالة الاستراتيجية السياسية التي يولد من رحمها التكتيك السياسي فتكون له المرشد والبوصلة والمرجع، لا التكتيك الذي يولد من رحم الفراغ، ويتبخر في الفراغ، وتتبخر معه أوطان وقضايا ومصالح شعوب.. يحمل رسالة التحرر الفكري والاجتماعي والانعتاق من المفاهيم البالية دون الانسلاخ عن الجذور بمفاهيمها الصالحة لمجتمعنا، والانتماء لماضينا كمنصة انطلاق للمستقبل، بدلاً من الانفصال عنه ولتاريخنا كذاكرة نتعلم من دروسها ونستند إليها في تحديث مجتمعنا بدلاً من التنكر له، وألا تقدم لمجتمع أو شعب لا تستند مفاهيمه وعاداته وتقاليده إلى فكر ديناميكي حركي تقدمي انفتاحي إبداعي.. وأخيراً يحمل جوهر الرسائل ومركز مدارها رسالة العائلة السليمة، فالأم التي أنتجت فكراً وعملاً لم تنس واجبها المشترك مع شريكها في الحياة في تقديم أبناء ناجحين وصالحين للوطن، ولم تلهِها مهامها الجسام عن الوقوف إلى جانب زوجها الدكتور ماجد العظمة خلال مسيرته الغنية والمليئة أيضا بالإنتاج الوطني المثمر، وكان لذلك التفاعل البناء دوره في رفع حجم ونوعية الإنتاج في مجالات عملهما، فكان كل منهما انعكاساً للآخر في أدائه ونجاحه، وقدما مثالاً أنموذجياً للعلاقة الصحيحة الصحية بين الرجل والمرأة، بين الأب والأم، وبين الزوج والزوجة.. وعندما تكون نواة المجتمع قويمة ومدارات الفكر والانتماء حولها مستقرة وسليمة يكون الوطن عندها عزيزاً منيعاً حصيناً.
أختم كلمتي أيها الحضور الكرام بالقول: إن الوسام لا يقلد اليوم للدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية ليمنحها مكانةً أو احتراماً تمتلكهما سلفاً، وإنما ليستمد الوسام منها القيمة والمقام والقدر والاحترام.. وشكراً لكم.